الحرية الأكاديمية- أساس المعرفة والتقدم أم قيد على العقول؟

لا تقتصر أهمية الحرية الأكاديمية على الجامعات وأعضاء هيئة التدريس فحسب، بل تمتد لتشمل المجتمعات بأسرها؛ إذ لا يمكن للبحث العلمي أن يزدهر أو للمجتمعات المعرفية، التي تعد حجر الزاوية في اقتصاد القرن الحادي والعشرين، أن تنمو وتتطور دون هذه الحرية.
لقد كان غياب الحريات الأكاديمية سببا رئيسيا في جعل الجامعات عاجزة عن إنتاج المعرفة، مما أدى إلى نزوح العقول المهاجرة نحو الدول الغربية، حيث ينعم الباحثون بالاستقلالية التي تمكنهم من توليد الأفكار الخلاقة.
أما الباحثون الذين لم يتمكنوا من الهجرة، فقد وقعوا فريسة للإحباط واليأس، مدركين أن مصائرهم معلقة بأجهزة الأمن التي تهيمن على الجامعات، وتملك سلطة فصل العلماء الذين يجرؤون على التعبير عن آرائهم، أو تدريس مواد تتعلق بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
يُعبّر العديد من الأساتذة عن أسفهم على أوقات مضت كان فيها الأستاذ الجامعي يحظى بالاحترام والتقدير، ويتحدثون عن رؤساء جامعات استماتوا في الدفاع عن استقلالية الجامعة وكرامة الأستاذ وحقه في التعبير والبحث العلمي، مهددين بالاستقالة رفضًا لفصل أساتذة اختلفوا معهم فكريًا أو أيديولوجيًا.
لا يمكن للجامعات أن تتقدم أو تزدهر ما لم يتم صون حق كل باحث أو عضو هيئة تدريس في إنتاج المعرفة ونشرها وتدريسها، والتعبير عن وجهات نظره، وطرح الأسئلة التي تفتح آفاقًا جديدة لتطوير البحث العلمي.
وثمة حقول علمية محددة، كالسياسة والإعلام والاجتماع والقانون والعلوم الإنسانية، لا يمكن أن يزدهر فيها إنتاج المعرفة أو تأهيل الطلاب ليصبحوا قادة للمجتمعات إذا ما قُيدت حرية الأساتذة في التدريس، وفرضت عليهم الرقابة، وبُث الخوف في نفوسهم؛ فماذا عساه أن يقول أستاذ الإعلام لطلابه في قاعات الدرس إذا شعر أن أمنه مهدد عندما يتحدث عن حرية الإعلام وأخلاقياته؟ وماذا يمكن أن يدرّس أستاذ العلوم السياسية لطلابه وهو غير قادر على مناقشة النظام السياسي أو الديمقراطية أو مخاطر الاستبداد والديكتاتورية على المجتمعات؟
من يمسك بزمام المناصب الأكاديمية؟
هناك إجماع عالمي في جميع الجامعات على أن الأساتذة هم من يديرون الجامعة وكلياتها وأقسامها، وهناك أعراف وتقاليد راسخة تحكم عملية اختيار الأساتذة لتولي هذه المناصب، مما يمنحهم الثقة بأنهم سيحظون بفرصتهم في تولي هذه المسؤوليات إذا استوفوا الشروط العلمية المطلوبة. وهذا بدوره يشجع عضو هيئة التدريس على التفرغ للبحث العلمي والاجتهاد لتطوير قدراته التدريسية، لأنه لا يحتاج إلى وسائل أخرى، مثل النفاق والتملق، للوصول إلى تلك المناصب.
لقد أسهمت هذه التقاليد الأكاديمية في تحقيق الاستقرار للجامعات في العديد من دول العالم التي كفلت حقوق أساتذتها، حيث بات الأستاذ الجامعي على دراية بالمؤهلات العلمية والعملية التي يجب أن يحصل عليها للترقي في المناصب الأكاديمية، بدءًا من رئاسة القسم وصولًا إلى رئاسة الجامعة. وقد تبنت العديد من الجامعات نظام الانتخاب لاختيار الشخص الأنسب لتولي هذه المناصب، بناءً على اعتراف أغلبية الأساتذة بأحقيته وجدارته وقدرته على إدارة شؤون الجامعة، وتحقيق العدل بين الأساتذة، وقيادتهم نحو تطوير البحث العلمي. وهذا يعد من أهم العوامل التي جعلت العديد من الجامعات في العالم مراكز لإنتاج المعرفة تسهم في تطوير الصناعة والزراعة والاقتصاد والسياسة والمجتمع والإعلام.
الإحباط وغياب العدالة
هل يمكن السماح بإجراء استطلاع لآراء أعضاء هيئة التدريس في الجامعات العربية حول الأسباب التي أعاقت قدرة الجامعات على القيام بدورها في تحقيق تقدم المجتمعات؟
إلى حين إتاحة الفرصة لإجراء هذا الاستطلاع، سنكتفي بالاعتماد على المؤشرات المتاحة، ومن أهمها حالة الاستياء والغضب التي تسود بين أعضاء هيئة التدريس، والتي تتجلى في الآراء التي يعبرون عنها على صفحاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى حالة الإحباط التي تظهر بوضوح في تعابيرهم وندمهم على إضاعة حياتهم في البحث العلمي، وتوجيههم النصائح لطلابهم بالابتعاد عن هذا المسار المحفوف بالمخاطر والآلام، حيث لا يحصل الأستاذ على المال أو المكانة أو التقدير.
يشعر العديد من الأساتذة بالحسرة على أزمنة خلت كان فيها الأستاذ الجامعي يحظى بالهيبة والوقار، ويتذكرون رؤساء الجامعات الذين هددوا بالاستقالة رفضًا لفصل أساتذة اختلفوا معهم فكريًا أو أيديولوجيًا، وذلك دفاعًا عن استقلالية الجامعات وكرامة الأستاذ الجامعي وحريته وحقه في التعبير والبحث العلمي.
هناك مؤشر آخر بالغ الأهمية ينذر بالخطر على الجامعات العربية، وهو أن أعضاء هيئة التدريس الذين نجحوا في الهجرة إلى الدول الغربية وحصلوا على جنسيتها تمكنوا من تحقيق النجاح والشهرة والمجد وحصدوا الجوائز والمناصب الرفيعة، ثم سعت الجامعات العربية إلى استقطابهم بمرتبات مغرية للتدريس فيها. في المقابل، يشعر عضو هيئة التدريس الذي يتعرض للظلم في جامعته بالندم والحسرة على تفضيله العودة إلى وطنه لخدمة مجتمعه بعلمه، ليصطدم بالظلم والمعايير المزدوجة والعنصرية التي تنتظره، مما يضعف عزيمته ويصيبه الأمراض، فلا يجد العلاج، أو يموت ليترك أبناءه الأيتام يعانون من أجل الحصول على معاش ضئيل لا يكفي لتغطية نفقاتهم الأساسية.
أما زميله الذي رفض العودة واستمر في الجامعات الأوروبية والأمريكية، فقد أصبح محط فخر واعتزاز وسائل الإعلام في بلاده، حيث يقدم صورة إيجابية عن وطنه ويحقق إنجازات علمية عظيمة. وهناك الآلاف من العلماء العرب الذين أدركوا منذ البداية أن المستقبل يكمن في الجامعات الأجنبية التي تقدر قيمة العلم وتعمل على إنتاج المعرفة وتقود مجتمعاتها نحو التقدم، وتوفر الحرية الأكاديمية وتضمن حقوق الجميع.
الخوف لا يثمر معرفة
من عاد إلى أرض الوطن اكتشف حقائق مرة، فاعتصرت الألم في حلقه، وإذ فقد فرصة الهجرة إلى الخارج، هاجر داخل وطنه، فاختار الصمت والانسحاب والانزواء.
ومن أشد الحقائق التي اكتشفها أن الجامعة لا تدار من قبل الأساتذة، بل تتحكم فيها الأجهزة الأمنية التي تختار من يتولون المناصب وفقًا لمعاييرها التي تتنافى مع العلم والكفاءة والمصداقية والحرية والكرامة.
ومما لا شك فيه أن الغرب كان سعيدًا بهذه النتيجة التي أتاحت له استقطاب مئات الآلاف من العلماء العرب الذين أنتجوا المعرفة وأبدعوا واخترعوا وابتكروا، وأصبحوا يدينون بالولاء للدول الغربية التي حصلوا على جنسيتها، ولم يعودوا قادرين على العمل في جامعات تفتقر إلى الحرية الأكاديمية بعد أن تذوقوا حلاوتها وعرفوا قيمتها، فهي كانت من أهم العوامل التي أسهمت في تحقيق نجاحهم وشهرتهم ومجدهم. أما الوطن، فقد تركوه لمن فضلوا القيود على الحرية والظلم على العدل.
من يذهب إلى الجامعات الغربية لن يجد أثرًا للأجهزة الأمنية، ولن يشعر بالخوف منها، ولن يتمكن ضابط من فصله أو منعه من الترقية لأنه يتحدث عن الحرية؛ لذلك يتفرغ للبحث العلمي والتفكير وإنتاج المعرفة، وهذا ما يفسر احتلال مئات الجامعات الغربية مكانة متقدمة في التصنيفات العالمية، بينما تقيم كل جامعة عربية تظهر في التصنيف العالمي الاحتفالات الصاخبة التي تعكس صورة سلبية عن الجامعة.
إن الذين يبنون مكانة الجامعة هم العلماء الذين يتمتعون بالحرية الأكاديمية وينتجون المعرفة دون خوف من الأجهزة الأمنية، ويتفرغون للبحث العلمي الذي يحقق لهم المجد والمكانة والجاه والحياة الكريمة؛ لذلك فمن الطبيعي أن تتفوق الجامعات الغربية وتصبح جامعات منتجة للمعرفة وقائدة لمجتمعاتها، وتؤهل قادة للمجتمعات، وتقيم اقتصادًا قويًا لا يعتمد على الديون.
الرقابة الذاتية
هل يمكن لباحث أو أستاذ أن يفرض الرقابة الذاتية على نفسه؟ وهل يستطيع أن ينتج المعرفة عندما يمنع نفسه من التعبير عن أفكاره خوفًا أو طمعًا؟
إن من أهم الشروط التي تؤهل الأستاذ للحصول على منصب في الجامعات أو خارجها هو أن ينجح في فرض الرقابة الذاتية على نفسه، فلا يقول إلا ما يرضي السلطة.
الأجهزة الأمنية تعرف من يبالغون في فرض الرقابة الذاتية على أنفسهم وتقدرهم، بينما تكون الكفاءة العلمية في كثير من الأحيان عقبة خطيرة تؤدي إلى الفشل، فالذي يشعر بكفاءته العلمية وبأنه مؤهل بجهده وكفاحه وبحوثه للحصول على المكانة العلمية التي يستحقها يكون أكثر اعتزازًا بكرامته وأشد حرصًا على أعراف الجامعات وتقاليدها، وهذا لا يرضي الأجهزة الأمنية، فيتم استبعاده حتى وإن كان يقف بجانب السلطة ويتبنى خطابها، لأن هذا النوع لا يؤمن جانبه ومن الصعب إخضاعه بشكل كامل.
ولأن البعض قد فهم اللعبة جيدًا فقد بالغ في النفاق وفرض الرقابة الذاتية على نفسه، فاغترف من خيرات السلطة بعد أن حقق أهدافه في إخضاع الجامعات والسيطرة عليها.
وبما أن الدولة التي تحقق التقدم في القرن الحادي والعشرين هي التي تنجح في بناء مجتمع المعرفة، فإن الدولة التي تفرض السيطرة على جامعاتها وترغمها على الخضوع وتتعامل معها كجهاز حكومي سوف تضعف نفسها وتدمر قدراتها على بناء اقتصاد قائم على المعرفة.
أما الجامعة التي تتخلى عن استقلالها وحريتها الأكاديمية وتفرط في كرامة أساتذتها، فلا يمكن أن تصبح جامعة منتجة للمعرفة ولن يكون لها دور في تحقيق تقدم المجتمع.
إن الحرية الأكاديمية هي السبيل الوحيد لبناء جامعات تنتج المعرفة وتبني المجتمعات المعرفية وتطور الاقتصاد القائم على المعرفة؛ ولذلك يجب أن يبدأ الأكاديميون العرب مرحلة جديدة للدفاع عن الحرية الأكاديمية لبناء مستقبل يرتكز على المعرفة.